المذهب الشافعي
صفحة 1 من اصل 1
المذهب الشافعي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته اما بعد:
المدخل إلى مذهب الإمام الشافعي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد.
فإن من نعمة الله على المرء أن يحبب العلم الشرعي إلي قلبه، وييسر له سبل طلبه، ويوفقه إلى ذلك، وإنه لعلامة على إرادة الله الخير للمرء أن يجد نفسه في حلقات العلم حاضرا بروحه وجسده مستمعا ومنصتا بقلبه ووجدانه لمسألة شرعية أو استنباط فقهي، سائلا عما لم يفهمه، وأن يجد نفسه بين طلبة للعلم يتبادلون المعلومات ويتفاكرون حولها ويسهم كل بدلوه، وقد ثبت في السنة قولهr: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين".
هذا وإن ومن مظاهرة عظمة هذا الدين أن جعل الله له أئمة يبينون للناس أمور دينهم ويستنبطون لهم الأحكام المتعلقة بشؤون دنياهم فكانوا مشاعل هداية، يرجع إليهم كل من حزبه أمر، أو نزلت به نازلة أو حيرته مشكلة، وهم من أمر الله بسؤالهم فقال: "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون" وأهل الذكر هم أهل العلم.
وقد تميزت الأمة المسلمة بثراء فقهي لا يوجد له نظير في سائر الديانات والمعتقدات والمجتمعات، ونبغ فيه نوابغ قل أن يوجد لهم نظير حتى إنه ليتضاءل أمامهم من يوصفون بعباقرة العالم -جهلا أو عصبية- ، ذلك لأنهم لم يقولوا يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين فتاه كثير منهم في معمعات كلامية وفلسفية لو قيل بعضها اليوم لطفل في السادسة لما صدقها أو استساغها.
إن الأئمة الذين نفاخر بهم كثر ولكن اشهرهم في المجال الفقهي أربعة: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد.
لقد شكل هؤلاء الأئمة أربع مدارس فقهية، سميت بالمذاهب،واستقرت من أيام أصحابها إلى يوم الناس هذا.
والمذاهب الفقهية هي اجتهادات في فهم النصوص الشرعية قد تصيب وقد تخطيء، ولهذا فالحق ليس محصورا في أحدها لا يخرج عنه بل الحق موزع عليها جميعا بل وعلى بقية الأئمة ممن كان لهم أتباع ثم انقرضوا كالإسحاقية أتباع أسحق بن راهوية والظاهرية أتباع داود، وغيرهم أو ممن ليس لهم أتباع يتبنون أفكارهم ويدافعون عنها كفقهاء المدينة السبعة وغيرهم.
هذا وقد حظيت المذاهب الأربعة بقبول واسع لدى المسلمين وجاء فترات للأمة لا تكاد تجد فيها أحدا إلا وهو ينتسب لمذهب منها، بل استحوذ كل مذاهب في غالب الأحيان على مناطق ومواضع شاسعة، فيقال مثلا بلاد كذا جميعها شافعية أو حنفية، وذلك له عدة عوامل لسنا بصدد التطرق لها، لكن يكفي أن نذكر هنا أن من أهم هذه العوامل نبوغ جماعات من العلماء الذين تبنوا نشر هذه المذاهب والتأصيل لها والإفتاء بموجبها، والاستنباط تبعا لقواعدها، وبسبب كثرة العلماء في المدرسة الواحدة وتتابع السنين وتباعد الأقطار، نشأت مجموعة بعض القضايا التي من خلالها يمكن أن يميز الراجح في المذهب وهو المعبر عنه بالمعتمد من غيره، وبين مراتب العلماء، واصطلاحاتهم، ووضع منهج دراسي يسير عليه الطالب كي يتمكن من معرفة المذهب وغيرها.
وتلبية لطلب بعض الأخوة الأفاضل الذين طلبوا من الفقير إليه سبحانه أن يكتب لهم أوراقا تبين بعض هذه الجوانب كي يستفيدوا منها في حياتهم العلمية، فيما يتعلق بالمذهب الشافعي نظرا لأن أهل منطقته يتبعون هذا المذهب، فلبيت هذه الرغبة مستعينا بالله فكتبت هذه الأوراق رغم كثرة الأشغال وضيق الوقت فأسأله سبحانه التوفيق والسداد، وأرجو ممن استفاد من هذه الرسالة أن يدعو لي بظهر الغيب والله المستعان.
المبحث الأول: لمحات من حياة الإمام الشافعي.
من المعلوم أن إمام المذهب الشافعي ومؤسسه هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع الشافعي وينتهي نسبه إلى عبد مناف جد النبيr وشافع بن السائب هو الذي ينسب إليه الشافعي.
ولد بغزة وقيل بعسقلان وقيل بمنى وقيل باليمن سنة 150هـ وهي السنة التي توفي فيها الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت، وقيل في اليوم الذي مات فيه.
حمل إلى مكة وهو ابن سنتين ونشأ بها وحفظ القرآن وهو بن سمع سنين والموطأ وهو ابن عشر، وتتلمذ على جماعة من أهل العلم منهم مسلم بن خالد الزنجي المكي وأجازه بالإفتاء وعمره خمسة عشر عاما، ثم رحل إلى الإمام مالك بالمدينة ولازمه مدة ثم قدم بغداد سنة 195هـ فأقام بها سنتين واجتمع عليه علماؤها، ورجع كثيرون منهم عن مذاهب كانوا عليها إلى مذهبه،وصنف بها كتبه القديمة ثم عاد إلى مكة فأقام بها مدة ثم عاد إلى بغداد سنة 198هـ فأقام بها شهرا ثم خرج إلى مصر فلم يزل بها ناشرا للعلم ملازما للاشتغال بجامعها العتيق إلى أن أصابته ضربة شديدة فمرض بسببها أياما وقيل مات بسبب البواسير ثم انتقل إلى رحمة الله تعالى يوم الجمعة آخر رجب من عام 204هـ ودفن بالقرافة بعد العصر من يومه.
هذا وقد تميزت شخصية الإمام بعدة مميزات وتحلى بمجموعة من المواهب والذكاء الفطري مما ساهم في تأهيله للمرتبة التي وصل إليها، وأشير هنا إلى شذرات من جوانب شخصيته الفذة:
قامع البدعة:
لقد اشتهر الشافعي بفقهه وذكائه الوقاد ونصرته للكتاب والسنة ولذلك ارتعدت فرائص أهل البدع منه، وتذكر لنا كتب التاريخ والتراجم بعضا من مناظراته والتي لم يسبق إليها مع بعض المبتدعة منذ أن كان يافعا يطلب العلم بمكة، ومما تذكره كتب التراجم أنه "قد حج بشر المريسي فرجع، فقال لأصحابه: رأيت شابا من قريش بمكة، ما أخاف على مذهبي إلا منه" وناظر إبراهيم بن عليه والذي كان من كبار الجهمية كما يقول الذهبي()، وحفص الفرد في مسألة خلق القرآن وزيادة الإيمان ونقصانه()، فقد كان رضي الله عنه مناظرا من الطراز الأول، ويظهر هذا في كتبه خاصة كتاب الرسالة.
كما كان رضي الله عنه –كغيره من الأئمة- شديد التحذير من البدع والأهواء،ومن عباراته الشهيرة: " لأن يلقى الله المرء بكل ذنب ما خلا الشرك بالله خير له من أن يلقاه بشيء من الأهواء"().
ولأن علم الكلام كان سببا رئيسيا وطريقا سهلة للبدعة وأهلها حذر منه أشد التحذير فكان يقول : "ما شيء أبغض إلي من الكلام وأهله"() ولهذا لقب الإمام حينما قدم بغداد بناصر السنة()، لأنه نصر السنة في معركتها ضد البدعة والذي شهد عصره انتشارا واسعا لها في بعض الأقاليم خاصة العراق والتي كانت تعج بالكثير الكثير من الأهواء والبدع المفارقة للإسلام وهدية، كما أنه نصر السنة في مواجهة الرأي المناقض والرافض للسنة أو لبعضها والذي جعل لنفسه منهجا جانب الصواب في بعض قواعده ومفرداته في تعامله مع السنة، إذ إن بعض فقهاء العراق رد بعض السنة بحجة مخالفتها إما للقرآن أو لما اجتمع لديه من أصول، أو لسنة أخرى رأى تقديمها، أو لكونها مما ينبغي أن تنقل تواترا لكون مضمونها مما تعم به البلوى أو غيره من وجهات النظر التي لم ترض المحدثين فشنوا حملة على أصحاب الرأي إلا أن غالبهم لم يكن لديه من الحجج القوية التي يستطيع من خلالها دحض هذا الاتجاه حتى جاء الشافعي فأصلح بين الفريقين بحيث أنه هدأ سورة غضب الجميع ووضح لكل فريق وجهة نظره كما أنه بين الحق ونصر السنة على الرأي الذي يخالفها ويناقضها، فرجع كثيرون عن مذاهبهم المخالفة للسنة والمبنية على تقديم الرأي إلى مذهب الشافعي والذي كان مرتكزه تقديم السنة على كافة أشكال الرأي.
ولهذا لا عجب أن نجد الكثير من المحدثين الشافعية كابن خزيمة والدراقطني والمزي والذهبي وابن حجر وغيرهم.
الشخصية الجذابة:
لقد تمتع الشافعي بشخصية جذابة، فاستطاع أن يؤثر في قطاعات واسعة ومتنوعة من الفقهاء والمحدثين وطلبة العلم والعامة، فاستطاع أن يجذب إلى حلقته جماعة من جهابذة عصره أمثال الإمام أحمد وأبي ثور وغيرهما، وقد تأثر التلاميذ بشخصيته تأثرا بالغا فأحبوه شيخهم حبا عظيما وحملوا له في نفوسهم كل التقدير والاحترام،وكنموذج لهذا أن أبا ثور سئل: أيهما أفقه الشافعي أو محمد بن الحسن؟ فأجاب: الشافعي أفقه من محمد وأبي يوسف وأبي حنيفة وحماد (شيخ أبي حنيفة) وإبراهيم (شيخ حماد) وعلقمة (شيخ إبراهيم) والأسود (شيخ علقمة) رغم أن أبا ثور كان على مذهب أهل الرأي قبل قدوم الشافعي العراق وهذا يرينا مقدار تأثير الشافعي في نفوس الناس وخاصة طلابه الذين انبهروا به انبهارا عظيما، ومع هذا لم يخل الحال من معارضين لإمامة الشافعي، وأناس لم يقدروه قدره، فهذا ابن معين يعتب على الإمام أحمد كيف أن الشافعي راكب وهو آخذ بركابه، فيجيب أحمد قائلا: إن أراد التفقه فاليأت وليمسك بركابه من الجانب الأخر.
ولهذا كان الأمام أحمد كثيرا ما يدعو للشافعي مما دفع ابنه عبدالله لسؤاله عن سبب دعائه له، فأجابه: لقد كان الشافعي كالشمس للدنيا وكالعافية للبدن فانظر هل لهذين من خلف.
لقد رزق الله سبحانه الإمام قبولا واسعا قل نظيره، ولهذا عندما ذهب إلى العراق ثم مصر استطاع أن يكون له أتباعا واستطاع أن يجذب الكثيرين، مما أغضب بعض المتعصبة لأنهم رأوا أن كثيرا من أتباعهم يتركونهم شيئا فشيئا ملتحقين بحلقة الشافعي ودروسه، فنقم عليه بعض المتعصبة وحاولوا الكيد له فلم يفلحوا، وكان بعض المالكية يدعو على الإمام في سجوده بالموت من شدة غيظه وكرهه له، لا لشيء إلا مخالفة المذهب، فيحكى أن أشهب وهو من أئمة المالكية في مصر كان يدو في سجوده: اللهم أمت الشافعي وإلا ذهب علم مالك، فبلغ ذلك الشافعي فأنشد متمثلا:
تمنّى رجالٌ أن أموت وإن أمُتْ ... فتلك سبيلٌ لستُ فيها بأوْحدِ
فقُلْ للذي يبغي خلافَ الذي مضى ... تزوَّدْ لأخرى غيرها فكأنْ قدِ
قال محمد بن عبد الحكم: فمات الشافعي فاشترى أشهب من تركته عبداً ثم مات أشهب فاشتريت أنا ذلك العبد من تركة أشهب وكانت وفاة أشهب في شهر رجب سنة أربع ومائتين بعد الشافعي بثمانية عشر يوماً وقيل : بشهر واحد ()
بل يحكى أن الإمام الشافعي دفع حياته ثمنا لانتشار مذهبه وقبول الناس له.
ج- التصنيف:
أتى عهد الشافعي وقد بدأت بوادر التصنيف والتأليف وخاصة في مجال الحديث، أما الفقه فقد كان التصنيف فيه قليلا، والمصنفات الفقهية السابقة على الشافعي كانت تعد بالأصابع، بله أصول الفقه الذي لم يصنف فيه أحد حتى جاء الشافعي وصنف الرسالة وغيرها.
فالإمام مالك صنف الموطأ وهو كتاب فقهي حديثي، وأبو يوسف ألف مجموعة من الكتب فقد الكثير منها، والإمام أحمد صنف مجموعة من الكتب حتى جاء الإمام الشافعي ووضع كتابه الحجة في مذهبه القديم، ولكنه أبدع في كتبه الجديدة وخاصة الأم والذي ألفه وهو بمصر، وقد اشتمل على معظم أبواب الفقه، ولهذا قيل إن كتاب الأم هو أول كتاب يصنف في الفقه، ولم يقتصر الأمر على هذا بل كان للإمام السبق في تأليف وتبويب كتب لم تعرف قبله مثل: كتاب المسابقة والمناضلة.
كما أن الإمام جاء والعلماء يتجادلون ويتناظرون ولم تكن هناك قواعد أو قوانين مدونة يتحاكمون إليها ويدرسونها لتلاميذهم كي يجعلوها قواعد وضوابط يقيسون بها استنباطاتهم واجتهاداتهم فصنف الإمام كتاب الرسالة في علم أصول الفقه، فكان أول واضع لهذا العلم ومرتب ومبوب ومخرج له إلى النور، فلم يسبق لأحد أن كتب في هذا العلم قبل الشافعي، فالإمام أحمد يقول: "ما كنا ندري ما العام ولا الخاص ولا الناسخ من المنسوخ حتى جاء الشافعي"
أقول هذا لأن بعض الأحناف زعم أن أبا يوسف قد سبق غيره وصنف كتابا في أصول الفقه، فإذا ما طولبوا به أجابوا بضياعه، والحق ما قدمناه، لأنه لو كان كما قيل لاشتهر الأمر أولا، وثانيا: لم يكن أحمد أن يقول مقالته السابقة.
هذا ويعتبر كتاب الرسالة خطوة جبارة في مجال التأليف عامة في العصر الإسلامي، وفي مجال علم أصول الفقه خاصة، إذ من المعلوم أن التأليف في الحديث لا يستدعي سوى استحضار الحديث بسنده، أضف إلى أنه مر بمراحل حتى انتهى إلى ما انتهى إليه، لكن الرسالة لم تبن على كتابات سابقة، ولم تجمع فيها المادة كيفما اتفق.
وأصل كتاب الرسالة أن عبد الرحمن بن مهدي كتب إلى الشافعي وهو شاب أن يضع له كتابا فيه معاني القرآن ويجمع فنون الأخبار فيه وحجة الإجماع وبيان الناسخ والمنسوخ من القران والسنة فوضع له كتاب الرسالة قال عبد الرحمن بن مهدي: "ما أصلي صلاة إلا وانا أدعو للشافعي فيها".
ونفهم من هذه القصة أن كتاب الرسالة من كتب الشافعي القديمة وأنه كتاب واحد استمر في تنقيحه وتهذيبه طوال مسيرته العلمية، فليس للشافعي رسالتان قديمة وجديدة كما ظن البعض، بدليل أن القديمة مفقودة، وكون بعضهم نقل جملا منها لايعني بقائها استقلالها بل نقول أن ما نقل منها وهو غير موجود في الجديدة مما تراجع عنه الشافعي وغير رأيه فيه.
د- الشافعي واللغة:
لقد كان لاختلاط الشافعي بالهذليين وحفظه لقصائدهم ودواوينهم أثر فعال في نمو ملكة ومعرفة الشافعي اللغوية، فألم بلغة العرب نحوا وصرفا، وكان عالما بلهجات العرب وتصاريف كلامها، ولهذا لم يعثر له على خطأ نحوي أو لغوي كما عثر لغيره، وما كان يظن أنه خطأ فهو من قلة معرفة الناقد أو تحامله.
وبدهي أن يكون الشافعي إماما وحجة في اللغة كما قال أحمد وابن هشام –صاحب السيرة-: الشافعي حجة في اللغة"() لأن من شروط المجتهد المطلق أن يكون كذلك،وإن خالف في هذا بعض الأصوليين كالشاطبي
وادعو الله بالأجر والثواب لي ولكم
المدخل إلى مذهب الإمام الشافعي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد.
فإن من نعمة الله على المرء أن يحبب العلم الشرعي إلي قلبه، وييسر له سبل طلبه، ويوفقه إلى ذلك، وإنه لعلامة على إرادة الله الخير للمرء أن يجد نفسه في حلقات العلم حاضرا بروحه وجسده مستمعا ومنصتا بقلبه ووجدانه لمسألة شرعية أو استنباط فقهي، سائلا عما لم يفهمه، وأن يجد نفسه بين طلبة للعلم يتبادلون المعلومات ويتفاكرون حولها ويسهم كل بدلوه، وقد ثبت في السنة قولهr: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين".
هذا وإن ومن مظاهرة عظمة هذا الدين أن جعل الله له أئمة يبينون للناس أمور دينهم ويستنبطون لهم الأحكام المتعلقة بشؤون دنياهم فكانوا مشاعل هداية، يرجع إليهم كل من حزبه أمر، أو نزلت به نازلة أو حيرته مشكلة، وهم من أمر الله بسؤالهم فقال: "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون" وأهل الذكر هم أهل العلم.
وقد تميزت الأمة المسلمة بثراء فقهي لا يوجد له نظير في سائر الديانات والمعتقدات والمجتمعات، ونبغ فيه نوابغ قل أن يوجد لهم نظير حتى إنه ليتضاءل أمامهم من يوصفون بعباقرة العالم -جهلا أو عصبية- ، ذلك لأنهم لم يقولوا يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين فتاه كثير منهم في معمعات كلامية وفلسفية لو قيل بعضها اليوم لطفل في السادسة لما صدقها أو استساغها.
إن الأئمة الذين نفاخر بهم كثر ولكن اشهرهم في المجال الفقهي أربعة: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد.
لقد شكل هؤلاء الأئمة أربع مدارس فقهية، سميت بالمذاهب،واستقرت من أيام أصحابها إلى يوم الناس هذا.
والمذاهب الفقهية هي اجتهادات في فهم النصوص الشرعية قد تصيب وقد تخطيء، ولهذا فالحق ليس محصورا في أحدها لا يخرج عنه بل الحق موزع عليها جميعا بل وعلى بقية الأئمة ممن كان لهم أتباع ثم انقرضوا كالإسحاقية أتباع أسحق بن راهوية والظاهرية أتباع داود، وغيرهم أو ممن ليس لهم أتباع يتبنون أفكارهم ويدافعون عنها كفقهاء المدينة السبعة وغيرهم.
هذا وقد حظيت المذاهب الأربعة بقبول واسع لدى المسلمين وجاء فترات للأمة لا تكاد تجد فيها أحدا إلا وهو ينتسب لمذهب منها، بل استحوذ كل مذاهب في غالب الأحيان على مناطق ومواضع شاسعة، فيقال مثلا بلاد كذا جميعها شافعية أو حنفية، وذلك له عدة عوامل لسنا بصدد التطرق لها، لكن يكفي أن نذكر هنا أن من أهم هذه العوامل نبوغ جماعات من العلماء الذين تبنوا نشر هذه المذاهب والتأصيل لها والإفتاء بموجبها، والاستنباط تبعا لقواعدها، وبسبب كثرة العلماء في المدرسة الواحدة وتتابع السنين وتباعد الأقطار، نشأت مجموعة بعض القضايا التي من خلالها يمكن أن يميز الراجح في المذهب وهو المعبر عنه بالمعتمد من غيره، وبين مراتب العلماء، واصطلاحاتهم، ووضع منهج دراسي يسير عليه الطالب كي يتمكن من معرفة المذهب وغيرها.
وتلبية لطلب بعض الأخوة الأفاضل الذين طلبوا من الفقير إليه سبحانه أن يكتب لهم أوراقا تبين بعض هذه الجوانب كي يستفيدوا منها في حياتهم العلمية، فيما يتعلق بالمذهب الشافعي نظرا لأن أهل منطقته يتبعون هذا المذهب، فلبيت هذه الرغبة مستعينا بالله فكتبت هذه الأوراق رغم كثرة الأشغال وضيق الوقت فأسأله سبحانه التوفيق والسداد، وأرجو ممن استفاد من هذه الرسالة أن يدعو لي بظهر الغيب والله المستعان.
المبحث الأول: لمحات من حياة الإمام الشافعي.
من المعلوم أن إمام المذهب الشافعي ومؤسسه هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع الشافعي وينتهي نسبه إلى عبد مناف جد النبيr وشافع بن السائب هو الذي ينسب إليه الشافعي.
ولد بغزة وقيل بعسقلان وقيل بمنى وقيل باليمن سنة 150هـ وهي السنة التي توفي فيها الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت، وقيل في اليوم الذي مات فيه.
حمل إلى مكة وهو ابن سنتين ونشأ بها وحفظ القرآن وهو بن سمع سنين والموطأ وهو ابن عشر، وتتلمذ على جماعة من أهل العلم منهم مسلم بن خالد الزنجي المكي وأجازه بالإفتاء وعمره خمسة عشر عاما، ثم رحل إلى الإمام مالك بالمدينة ولازمه مدة ثم قدم بغداد سنة 195هـ فأقام بها سنتين واجتمع عليه علماؤها، ورجع كثيرون منهم عن مذاهب كانوا عليها إلى مذهبه،وصنف بها كتبه القديمة ثم عاد إلى مكة فأقام بها مدة ثم عاد إلى بغداد سنة 198هـ فأقام بها شهرا ثم خرج إلى مصر فلم يزل بها ناشرا للعلم ملازما للاشتغال بجامعها العتيق إلى أن أصابته ضربة شديدة فمرض بسببها أياما وقيل مات بسبب البواسير ثم انتقل إلى رحمة الله تعالى يوم الجمعة آخر رجب من عام 204هـ ودفن بالقرافة بعد العصر من يومه.
هذا وقد تميزت شخصية الإمام بعدة مميزات وتحلى بمجموعة من المواهب والذكاء الفطري مما ساهم في تأهيله للمرتبة التي وصل إليها، وأشير هنا إلى شذرات من جوانب شخصيته الفذة:
قامع البدعة:
لقد اشتهر الشافعي بفقهه وذكائه الوقاد ونصرته للكتاب والسنة ولذلك ارتعدت فرائص أهل البدع منه، وتذكر لنا كتب التاريخ والتراجم بعضا من مناظراته والتي لم يسبق إليها مع بعض المبتدعة منذ أن كان يافعا يطلب العلم بمكة، ومما تذكره كتب التراجم أنه "قد حج بشر المريسي فرجع، فقال لأصحابه: رأيت شابا من قريش بمكة، ما أخاف على مذهبي إلا منه" وناظر إبراهيم بن عليه والذي كان من كبار الجهمية كما يقول الذهبي()، وحفص الفرد في مسألة خلق القرآن وزيادة الإيمان ونقصانه()، فقد كان رضي الله عنه مناظرا من الطراز الأول، ويظهر هذا في كتبه خاصة كتاب الرسالة.
كما كان رضي الله عنه –كغيره من الأئمة- شديد التحذير من البدع والأهواء،ومن عباراته الشهيرة: " لأن يلقى الله المرء بكل ذنب ما خلا الشرك بالله خير له من أن يلقاه بشيء من الأهواء"().
ولأن علم الكلام كان سببا رئيسيا وطريقا سهلة للبدعة وأهلها حذر منه أشد التحذير فكان يقول : "ما شيء أبغض إلي من الكلام وأهله"() ولهذا لقب الإمام حينما قدم بغداد بناصر السنة()، لأنه نصر السنة في معركتها ضد البدعة والذي شهد عصره انتشارا واسعا لها في بعض الأقاليم خاصة العراق والتي كانت تعج بالكثير الكثير من الأهواء والبدع المفارقة للإسلام وهدية، كما أنه نصر السنة في مواجهة الرأي المناقض والرافض للسنة أو لبعضها والذي جعل لنفسه منهجا جانب الصواب في بعض قواعده ومفرداته في تعامله مع السنة، إذ إن بعض فقهاء العراق رد بعض السنة بحجة مخالفتها إما للقرآن أو لما اجتمع لديه من أصول، أو لسنة أخرى رأى تقديمها، أو لكونها مما ينبغي أن تنقل تواترا لكون مضمونها مما تعم به البلوى أو غيره من وجهات النظر التي لم ترض المحدثين فشنوا حملة على أصحاب الرأي إلا أن غالبهم لم يكن لديه من الحجج القوية التي يستطيع من خلالها دحض هذا الاتجاه حتى جاء الشافعي فأصلح بين الفريقين بحيث أنه هدأ سورة غضب الجميع ووضح لكل فريق وجهة نظره كما أنه بين الحق ونصر السنة على الرأي الذي يخالفها ويناقضها، فرجع كثيرون عن مذاهبهم المخالفة للسنة والمبنية على تقديم الرأي إلى مذهب الشافعي والذي كان مرتكزه تقديم السنة على كافة أشكال الرأي.
ولهذا لا عجب أن نجد الكثير من المحدثين الشافعية كابن خزيمة والدراقطني والمزي والذهبي وابن حجر وغيرهم.
الشخصية الجذابة:
لقد تمتع الشافعي بشخصية جذابة، فاستطاع أن يؤثر في قطاعات واسعة ومتنوعة من الفقهاء والمحدثين وطلبة العلم والعامة، فاستطاع أن يجذب إلى حلقته جماعة من جهابذة عصره أمثال الإمام أحمد وأبي ثور وغيرهما، وقد تأثر التلاميذ بشخصيته تأثرا بالغا فأحبوه شيخهم حبا عظيما وحملوا له في نفوسهم كل التقدير والاحترام،وكنموذج لهذا أن أبا ثور سئل: أيهما أفقه الشافعي أو محمد بن الحسن؟ فأجاب: الشافعي أفقه من محمد وأبي يوسف وأبي حنيفة وحماد (شيخ أبي حنيفة) وإبراهيم (شيخ حماد) وعلقمة (شيخ إبراهيم) والأسود (شيخ علقمة) رغم أن أبا ثور كان على مذهب أهل الرأي قبل قدوم الشافعي العراق وهذا يرينا مقدار تأثير الشافعي في نفوس الناس وخاصة طلابه الذين انبهروا به انبهارا عظيما، ومع هذا لم يخل الحال من معارضين لإمامة الشافعي، وأناس لم يقدروه قدره، فهذا ابن معين يعتب على الإمام أحمد كيف أن الشافعي راكب وهو آخذ بركابه، فيجيب أحمد قائلا: إن أراد التفقه فاليأت وليمسك بركابه من الجانب الأخر.
ولهذا كان الأمام أحمد كثيرا ما يدعو للشافعي مما دفع ابنه عبدالله لسؤاله عن سبب دعائه له، فأجابه: لقد كان الشافعي كالشمس للدنيا وكالعافية للبدن فانظر هل لهذين من خلف.
لقد رزق الله سبحانه الإمام قبولا واسعا قل نظيره، ولهذا عندما ذهب إلى العراق ثم مصر استطاع أن يكون له أتباعا واستطاع أن يجذب الكثيرين، مما أغضب بعض المتعصبة لأنهم رأوا أن كثيرا من أتباعهم يتركونهم شيئا فشيئا ملتحقين بحلقة الشافعي ودروسه، فنقم عليه بعض المتعصبة وحاولوا الكيد له فلم يفلحوا، وكان بعض المالكية يدعو على الإمام في سجوده بالموت من شدة غيظه وكرهه له، لا لشيء إلا مخالفة المذهب، فيحكى أن أشهب وهو من أئمة المالكية في مصر كان يدو في سجوده: اللهم أمت الشافعي وإلا ذهب علم مالك، فبلغ ذلك الشافعي فأنشد متمثلا:
تمنّى رجالٌ أن أموت وإن أمُتْ ... فتلك سبيلٌ لستُ فيها بأوْحدِ
فقُلْ للذي يبغي خلافَ الذي مضى ... تزوَّدْ لأخرى غيرها فكأنْ قدِ
قال محمد بن عبد الحكم: فمات الشافعي فاشترى أشهب من تركته عبداً ثم مات أشهب فاشتريت أنا ذلك العبد من تركة أشهب وكانت وفاة أشهب في شهر رجب سنة أربع ومائتين بعد الشافعي بثمانية عشر يوماً وقيل : بشهر واحد ()
بل يحكى أن الإمام الشافعي دفع حياته ثمنا لانتشار مذهبه وقبول الناس له.
ج- التصنيف:
أتى عهد الشافعي وقد بدأت بوادر التصنيف والتأليف وخاصة في مجال الحديث، أما الفقه فقد كان التصنيف فيه قليلا، والمصنفات الفقهية السابقة على الشافعي كانت تعد بالأصابع، بله أصول الفقه الذي لم يصنف فيه أحد حتى جاء الشافعي وصنف الرسالة وغيرها.
فالإمام مالك صنف الموطأ وهو كتاب فقهي حديثي، وأبو يوسف ألف مجموعة من الكتب فقد الكثير منها، والإمام أحمد صنف مجموعة من الكتب حتى جاء الإمام الشافعي ووضع كتابه الحجة في مذهبه القديم، ولكنه أبدع في كتبه الجديدة وخاصة الأم والذي ألفه وهو بمصر، وقد اشتمل على معظم أبواب الفقه، ولهذا قيل إن كتاب الأم هو أول كتاب يصنف في الفقه، ولم يقتصر الأمر على هذا بل كان للإمام السبق في تأليف وتبويب كتب لم تعرف قبله مثل: كتاب المسابقة والمناضلة.
كما أن الإمام جاء والعلماء يتجادلون ويتناظرون ولم تكن هناك قواعد أو قوانين مدونة يتحاكمون إليها ويدرسونها لتلاميذهم كي يجعلوها قواعد وضوابط يقيسون بها استنباطاتهم واجتهاداتهم فصنف الإمام كتاب الرسالة في علم أصول الفقه، فكان أول واضع لهذا العلم ومرتب ومبوب ومخرج له إلى النور، فلم يسبق لأحد أن كتب في هذا العلم قبل الشافعي، فالإمام أحمد يقول: "ما كنا ندري ما العام ولا الخاص ولا الناسخ من المنسوخ حتى جاء الشافعي"
أقول هذا لأن بعض الأحناف زعم أن أبا يوسف قد سبق غيره وصنف كتابا في أصول الفقه، فإذا ما طولبوا به أجابوا بضياعه، والحق ما قدمناه، لأنه لو كان كما قيل لاشتهر الأمر أولا، وثانيا: لم يكن أحمد أن يقول مقالته السابقة.
هذا ويعتبر كتاب الرسالة خطوة جبارة في مجال التأليف عامة في العصر الإسلامي، وفي مجال علم أصول الفقه خاصة، إذ من المعلوم أن التأليف في الحديث لا يستدعي سوى استحضار الحديث بسنده، أضف إلى أنه مر بمراحل حتى انتهى إلى ما انتهى إليه، لكن الرسالة لم تبن على كتابات سابقة، ولم تجمع فيها المادة كيفما اتفق.
وأصل كتاب الرسالة أن عبد الرحمن بن مهدي كتب إلى الشافعي وهو شاب أن يضع له كتابا فيه معاني القرآن ويجمع فنون الأخبار فيه وحجة الإجماع وبيان الناسخ والمنسوخ من القران والسنة فوضع له كتاب الرسالة قال عبد الرحمن بن مهدي: "ما أصلي صلاة إلا وانا أدعو للشافعي فيها".
ونفهم من هذه القصة أن كتاب الرسالة من كتب الشافعي القديمة وأنه كتاب واحد استمر في تنقيحه وتهذيبه طوال مسيرته العلمية، فليس للشافعي رسالتان قديمة وجديدة كما ظن البعض، بدليل أن القديمة مفقودة، وكون بعضهم نقل جملا منها لايعني بقائها استقلالها بل نقول أن ما نقل منها وهو غير موجود في الجديدة مما تراجع عنه الشافعي وغير رأيه فيه.
د- الشافعي واللغة:
لقد كان لاختلاط الشافعي بالهذليين وحفظه لقصائدهم ودواوينهم أثر فعال في نمو ملكة ومعرفة الشافعي اللغوية، فألم بلغة العرب نحوا وصرفا، وكان عالما بلهجات العرب وتصاريف كلامها، ولهذا لم يعثر له على خطأ نحوي أو لغوي كما عثر لغيره، وما كان يظن أنه خطأ فهو من قلة معرفة الناقد أو تحامله.
وبدهي أن يكون الشافعي إماما وحجة في اللغة كما قال أحمد وابن هشام –صاحب السيرة-: الشافعي حجة في اللغة"() لأن من شروط المجتهد المطلق أن يكون كذلك،وإن خالف في هذا بعض الأصوليين كالشاطبي
وادعو الله بالأجر والثواب لي ولكم
حليمة ابو شريعة- طالباً شجاع
-
عدد الرسائل : 60
العمر : 29
المزاج : mn ela5er
تاريخ التسجيل : 27/09/2009
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى